عندما تُمارس السياسة بأسلوب بلع الأذن تنتج الكوارث
علي عافه إدريس
قبل أكثر من عشرة سنوات حكى لي خالي الذي أعتبره حكيما ، قصة بمناسبة
خلاف قوي نشب بين بعض أقرباءنا ، ورغم مرور مدة طويلة على حكاية خالي تلك
إلا أنها لا زالت حاضرة في ذهني وكأنها حكيت لي اليوم بل أن الكثير من
معانيها العميقة أصبحت تتكشف لي أكثر وأكثر مع مرور الأيام ، وفحوى القصة
"أن شخصين تعاركا وتشابكا بالأيدي وأن أحدهما تمكن من عض أذن الآخر وقطعها
، وعندما تحقق له قطعها لم يتوان عن بلعها ، وهذا الفعل القبيح كان محل
استهجان واستنكار كل من كان حاضرا أو سمع بالقصة لاحقا ، وعندما سئل صاحبنا
ما الذي دفعه لهذا الفعل القبيح ، قال أنه فعل ما فعل حتى يلغي أي احتمال
لإصلاح أذن خصمه" .
أي شخص عندما يسمع أو يقرأ هذه القصة سيبدي من الوهلة الأولى تقززه
واستهجانه للفعل الذي قام به هذا الشخص وربما تفاعل أكثر ووصفه بالغبي ،
إلا أنني أود من القارئ أن يتعمق و يتمعن أكثر في المعاني التي تحملها هذه
القصة الغريبة التي ربما لا تكون حقيقية إلا أنها ذات معنى ومغزى عميق ،
فإذا كانت خيالية فبعدها الخيالي منحها معنى أعمق وأوضح ، لهذا يجب أن نشد
على يد من ألفها لأنه مبدع في ادراك معاني الأشياء بدقة يحسد عليها ،
والمضمون الذي فهمته حتى الآن أن صراعك مع الآخر مهما كان عنيفا ومهما كنت
حاقدا عليه وتريد الانتقام منه يجب أن لا ينسيك أن تحسب مقدار الأذى الذي
سيلحق بك ، وبطل قصتنا قد انتصر بقطع أذن خصمه لكن ما لحق به من الأذى ببلع
الأذن جعل خسارته إن لم تكن أكبر فهي تساوي خسارة خصمه.
قبل تناولي لما سميته سياسية بلع الأذن بودي أولا أن أشرح معنى كلمة
سياسة بشكل مبسط دون الدخول في تعريفاتها القانونية والفلسفية ، فكل مقصدي
لا يتعدى هدف تقريب معناها للذهن ، فكلمة سياسة تستخدم للدلالة على تسيير
أمور أي جماعة وقيادتها ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الانسانية
المختلفة وتفاعلاتها بين أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة ،
لهذا درجت كل الأحزاب والتجمعات السياسية على نشر برامجها السياسية وتوضيح
أهدافها العامة والخاصة من تجمعها رغبة منها في استقطاب أكبر عدد ممكن من
الجماهير ، والشخص الذي يسعى لتنفيذ تلك البرامج وتحقيق تلك الأهداف سواء
كان في القاعدة أم في القيادة يسمى سياسي ومهمته تتلخص في المساعدة على
تحقيق الأهداف التي تم التوافق عليها في الكيان الذي ينتمي إليه ، ولأنه لا
يكون دائما أمر تحقيق تلك الأهداف في متناول يده لوجود كيانات أخرى تسعى
لتحقيق أهداف متناقضة مع أهداف كيانه ، لهذا لا يستطيع تحقيق كل الأهداف ،
والذي لم يستطع تحقيقه لوحده يلجأ لمساومة الآخر بشأنه للحصول على أعلى
مكاسب فيه وتقديم أقل التنازلات ، أما السياسي الذي لا يجيد التعامل مع
معادلة أكبر مكاسب وأقل تنازلات وأن همه الأساسي أن يكرس كل جهوده لالحاق
الأذى بخصمه و تنفيذ سياسة أنا ومن بعدي الطوفان فسأسميه في مقالي هذا
منفذ سياسة بلع الأذن.
وقبل أن أتتبع سياسة بلع الأذن في واقع السياسة الارترية ، بودي أن أعرج
على مصر لأن وضوح طريقة التعاطي مع السياسة بأسلوب بلع الأذن كانت أوضح ما
تكون في مصر خلال السنتين الماضيتين ، فما تم انجازه حتى الآن هو بامتياز
نتاج لتلك السياسة ، بداية باحساس الاحزاب العلمانية بالاقصاء وتجمعها
للانتقام بأي ثمن واستعدادها للتحالف مع الشيطان في سبيل اقصاء الأخوان
مرورا بانتصارها المتخيل في عزل مرسي والمذابح التي حدثت للأخوان وحالة
الهروب والتخفي لمعظم العلمانيين والسجن لبعضهم ، مرورا كذلك بحبال المشانق
التي تنتظر الاخوان ، وأفق الحلول التي انسدت بالكامل بوصول معركة كسر
العظم لقمة تصاعدها ، وانتهاءً بحلفاء السيسي من داخل وخارج مصر الذين
أخذوا يفكرون جديا في استبداله خشية من انفراط عقد الدولة المصرية التي
يمكن أن تكون من أكبر الكوارث التي ستمر على منطقة الشرق الأوسط ، لاحظ معي
أن الجميع كان خاسرا وإن تفاوتت درجة الخسارة و سيكون آخر الخاسرين في تلك
المتتالية هو السيسي وسيقضي بقية حياته مطاردا إن لم يتم القبض عليه
ومحاكمته ليكون آخر الشاربين من نفس الكأس ، ما حدث في مصر كان ظاهره
سياسيا إلا أنه كان صراع أحقاد وانتقام وتشفي بين سياسيين فهموا الصراع
السياسي على أنه تدمير كل شيء بما في ذلك المصالح الخاصة بهم وبأحزابهم.
أما سياسة بلع الأذن في الشأن الأرتري فحدث ولا حرج بداية برأس الدولة
الأرترية الذي كانت أبواب التاريخ منذ العام 1991م مشرعة لدخوله كقائد همام
أوحد إلا أنه آثر الدخول من باب المجرمين وكبار العتاة في التاريخ البشري ،
فقط لممارسة أحقاده بدلا عن السياسة فأصبح أحد المبدعين في الارتقاء بسياسة
بلع الأذن وأحد مخترعي نظريات ممارسة تلك السياسة ، فبدأ بإقصاء كل من هرول
إليه منذ فجر التحرير وكانوا أغلبية مقارنة بالقلة التي صمدت خلف الحدود ،
ثم النيل بلا هوادة و لا رحمة من كل أصحاب العمامات البيضاء قتلا واختطافا
وسجنا ، مرورا بسجن رفاقه الذين قاسموه الحلوة والمرة في فترة النضال
لتتعفن أجسادهم في سجونه التحت أرضية ، ليصاب بعد ذلك بلوثة جعلت من كل
الشعب هدفا لاشباع رغبة الانتقام الجامحة التي انتابته ، ليقترب في النهاية
من أبواب محكمة العدل الدولية هذا إذا لم تطاله يد أحد ضحاياه انتقاماً .
أما في اطار أفراد و تنظيمات المعارضة الارترية السياسية والمدنية
والمظلات الجامعة لها تمارس سياسة بلع الأذن بطرق شتى حتى لو لم تكن بنفس
درجة وضوح ما يمارسه رأس النظام الارتري ، وما يجعلها أقل في وضوحها عن
النظام أنها في حالة المعارضة تأخذ أنماطا وأشكالا متعددة لهذا يواجه
المراقب بعض الصعوبات في تتبعها رغم تأكده من ممارستها من قبل كل الفرقاء
وأول دلائل ممارستها انسداد الافق في ايجاد حلول للمشكلات سواء كان ذلك في
اطار التنظيم الواحد أو في المظلات الجامعة فانسداد أفق ايجاد الحلول يعني
أن كل الاطراف تمترست بشروطها وبالعوائق التي وضعتها وهي بذلك تمارس سياسة
بلع الأذن بامتياز ، أما ثاني المؤشرات على وجود تلك السياسة أن لا توجد
برامج حد أدنى بين التنظيمات التي تتشابه لدرجة التطابق في برامجها
السياسية ، لاحظ معي هنا لم أقل التوحد فيما بينها ، لأن التوحد لا يكفي
فيه تطابق البرامج فلابد لتحققه أن تتوافر مجموعة من العوامل ، فهو مثلا
يحتاج لوعي متقدم جدا ونكران ذات وروح تضحية عالية وارادة قوية ، أما
برنامج الحد الأدني فقط يحتاج لوعي بالمصالح وبرنامج الحد الأدنى هو كذلك
برنامج المظلات الجامعة .
أما ما يحدث في المجلس الوطني الارتري للتغيير الديمقراطي يدمى له القلب
وذلك للآمال الكبرى التي كانت تعلق على ما يمكن أن ينجزه ذلك المجلس ، فمنذ
نشأته الأولى وحتى التجميد الأخير للجنة التحضيرية ووقف أعمالها نتيجة
ممارسة هذه الأخيرة لسياسات بلع الأذن نجد أنفسنا في كل مرة ضحية تلك
السياسات العجيبة التي دأبت كل الأطراف على ممارستها في أول فرصة تتاح لها
، و أن انسداد أفق ايجاد الحلول في المجلس الوطني قد بدأ منذ ميلاده وكل من
أتيحت له فرصة لقيادة مهام محددة فيه مارس سياسة بلع الأذن فكان من نتيجة
ذلك توقف المجلس عن العمل من يومه الأول لتمترس مكوناته كلٍ في موقعه ، وما
يحدث في المجلس الوطني هو انعكاس لما يحدث في مكوناته فإن سياسة بلع الأذن
هي سياسة تمارس بامتياز في التنظيمات ومنها انتقلت للمجلس الوطني .
ففي التنظيم الواحد مؤشر سياسة بلع الأذن يظهر واضحا في مستوى الحدة
والتصعيد الذي يصل إليها أي خلاف ينشأ داخل ذلك التنظيم ففي المرحلة الأولى
يتمترس كل طرف في موقعه متمسكا بفهمه وتفسيره لنقاط الخلاف ، ثم ينتقل
الخصمان لاختلاق المبررات والكذب ويصور الأمر وكأنه صراع بين الحق والباطل
وبين تسلط القيادة ، ومرونة الاطراف الأخرى وديمقراطية الأعضاء ودكتاتورية
القيادة وبين المؤسسية واللامؤسسية و النظام و الفوضى وينسد الأفق نهائيا
في ايجاد الحلول للخروج من المأزق فيفكر الطرف الأقوى والأكثر سيطرة في
الحسم ويستخدم كل المبررات التي اختلقها الطرف الآخر بعد تأزم الخلاف فهي
لم تكن من أصل المشكلة انما استخدمها الطرف الآخر ضمن سياسة الانتصار للذات
وفي نفس الوقت الطرف الأقوى يتناسى المبررات التي اختلقها هو في نفس اطار
سياسة الانتصار للذات وربما كان رد فعل الاضعف وخلقه للمبررات نتيجة لما
قام به الأقوى ومع هذا يتناسها ، فيبدأ بمعاقبة الطرف الآخر ويرفض الآخر
تلك العقوبات ويبدأ في اتخاذ إجراءات مضادة ويحدث الانفصال بين الفريقين
وتبدأ مرحلة أخرى سأسميها مرحلة نشر الغسيل الوسخ وهي في حقيقتها مرحلة
يقبر فيها كل فريق نفسه وهو حي وهو يفعل ذلك وبإعتقاده أنه يقبر الطرف
الآخر وينتهي الأمر بكارثة نتيجة لاتباعهم سياسة بلع الأذن وقد يتفاجأ
الأقوى بأن الذي كان ظاهرا في السطح لم يكن سوى قمة جبل الجليد وذلك أن
الطرف الأضعف عندما يفقد الأمل يسعى للحشد بكل الوسائل الشرعية و غير
الشرعية فيلجأ للإقليم و القبيلة والعشيرة ، وقد يتفاجأ الأضعف أيضا بأنه
لا يستطيع أن ينجز أي شيء ويرى الآخر ينجز فيستعيد أحقاده السابقة ويتفرغ
لخصمه تاركا كل الأهداف التي كان يناضل من أجلها ، هذا ليس سيناريو متخيل
بل سبق وأن حدث في أكثر من تنظيم أرتري ، والقيادات الحقيقية يمكنها تداركه
فقط إذا لم تستخدم سياسة بلع الأذن ، ولتدارك ذلك يكفيها فقط أن تعلم بحق
أن الاختلاف سنة الحياة وتضعه في اعتبارها وتعمل به ، فليس هناك شخص متطابق
مع الآخر فحتى نوعية البشر التي تتفنن في خلق الخلافات هي ضمن اختلاف
نوعيات البشر وموجودة بكثرة وهذه النوعية يجب التخلص منها ، لكن التعامل
معها والتخلص منها لا يتم عبر خلط الصالح بالطالح والحابل بالنابل أو بخلق
مواجهات معها أو بالحاق العقوبات بها لان لها من المقدرة بحيث ترد الصاع
صاعين حتى لو كان في موقع آخر، فهم عندما لا يستطيعون النيل من خصمهم الذي
كان يصارعونه داخل ذلك الكيان يلجؤون لقتل حلم الجميع داخل ذلك التنظيم ،
لهذا القيادي الحقيقي هو من يدرك تلك الأمور فيذهب لاتجاه التخلص منها
رويدا رويدا عبر فرز العناصر الصالحة من الفاسدة و عبر عدم خلق البيئات
الصالحة لنشاط الفئات المدمنة للخلاف ، وكذلك عبر تهميشها في العمل على
المدى الزمني البعيد والتخلص منها نهائيا عبر المؤتمرات التي تحضرها النخب
الحقيقية والحريصة على التنظيم ، وإذا لم يفكر القيادي بهذا الأسلوب
فالفرق بينه وبين قاعدته هو البدلة و ربطة العنق وإذا وجد في القاعدة من
يلبس البدلة وربطة العنق سيتساوى مع ذلك القيادي ، والأمر الذي تجدر
الاشارة له هنا هو أن معظم مكونات المجلس الوطني هي نتاج عمليات ولادة
قيصرية عسيرة من سنياريوهات مشابهة للسيناريو الذي تحدثنا عنه ولا زالت
أطرافه تحمل نفس المررات والأحقاد والروح الثأرية ويكاد يقتصر المجلس
الوطني على تنظيمات نشأت نتيجة لسيناريوهات متشابهة وأن طرفي الصراع السابق
أعضاء فيه والأنكأ من كل ذلك أنها لازالت تعيش في نفس مراحل صراعاتها
السابقة و لأنها تحمل نفس العقليات بالتالي ستنتج نفس النتائج.
كما أن سياسة بلع الأذن ليست مقتصرة على التنظيمات وقيادات تلك التنظيمات ،
بل يمكن أن تمارسها نخب المثقفين بأسلوب ينزع منهم ثقافتهم ونخبويتهم ،
وممارستهم لها تتم بطرق وأساليب متعددة فعلى سبيل المثال ذلك المثقف
والكادر المتقدم الذي يكتب مقالا أو ينشيء بوستا في الفيس بوك يتتبع فيه
سقطة أحد زملاءه في التنظيم أو في تنظيم آخر أو سقطة من سقطات التنظيم الذي
هو في خلاف معه ، و يكون منتشيا باعجابات وتعليقات جمهور تنظيمه ومستمتعا
بالحدة التي يظهرها أعضاء التنظيم الآخر في ردودهم عليه ، وهو يعلم علم
اليقين أن تلك السقطة التي رصدها وانتشى بها لا تهز شعرة في خصمه وقد تفيده
في تصحيح مساره ومع هذا أفاد ذلك التنظيم بترقية أدائه عبر تنبيه لسقطاته و
ملأ قلوب مناصري ذلك التنظيم حقدا عليه ، فهو بلا شك يمارس سياسة بلع الأذن
بامتياز.
وفي الختام اللهم أنر قلوبنا وعقولنا و لا تجعلنا ممن يمارسون سياسة بلع
الأذن.
و حتى لقاء آخرالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
للتواصل
aliafaa@yahoo.com
<a href="http://www.related-work.org/shoes/coupon-for-womens-asics-gel-lyte-5_107_1.html" title="Womens Asics Gel Lyte 5">Womens Asics Gel Lyte 5</a>