الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود اسماعيل
رجل بقامة أمة
بقلم المهندس سليمان فايد دراشح
يقولون المعلم مثل الشمعة التي تحترق حتى تضيء للآخرين طريقهم وتنور دربهم،
ويحمل الناس التقدير والاحترام للمعلمين لأنهم نذروا أنفسهم للعطاء
اللامتناهي للطلاب الذين يعتبرونه بمثابة أبنائهم، يعطونهم الحب ويزرعون
فيهم بذرة العلم دون انتظار مقابل، كل الذي يريدونه أن تنبت هذه البذرة
وتزهر زهرة أو وردة جميلة يفوح عطرها في سائر الأرجاء.
ومن هؤلاء المعلمين الأجلاء الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود وهو اسم
استثنائي وذلك الاستثناء لم يكن مجرد تعبير أود من خلاله افراغ جملة من
المشاعر حملتها الأيام التي عرفت فيها القامة الاستاذ صالح محمد محمود
فحسب، ولكنها حقيقة تاريخية يجب الوقوف عليها بالدراسة لمفردات حياة أحد
الرجال الأوفياء الذين ساهموا بقسط وافر من البذل والعطاء في خدمة التعليم
في وطنهم.
قيمة علمية كبيرة ومشوار جبار حين نحاول الاقتراب من شخصية هذا المربي
الجليل سنكتشف أننا أمام شخصية متعددة المواهب والقدرات، فهو قامة بلا شك
قدم لبلاده وطلابه الكثير من أمثاله لا يموتون ولكن يرحلون وتبقى نبراتهم
وأعمالهم وذكراهم خالدة.
أنه رجل من أعلام ارتريا نحسبه على خير ولا نزكي على أحد لقد كان همه - طيب
الله ثراه - أن يرى أبناء بلده قد نهلوا من العلم الحديث أفضله، جاهد من
أجل تحرير ورفعة وطنه باخلاص ووفاء وانتماء صادق وأمين، مثل هذا الرجل
العظيم لا يمكن كل ثرى أرتريا وشعبها أن ينسوه.
يقول الذين يعرفونه أنه جليل القدر ذو سماحة وطيب النفس هادئ يتجنب الأضواء
ويتفادى الضجيج ويمقت الشهرة اذا عبر عن رأي كان يحاول أن يتوسط به بين
الآراء ويتواءم فيه مع الجماعة وكانت كلماته العذبة المقتضبة والمفيدة تملأ
المجلس حوله رضاً وقبولاً كان يعمل رسول وفاق بين الجميع ويسعى الى إصلاح
ما أفسده الدهر بين المناضلين الارتريين.
الرجل لا يحاول عرض علمه ومقدراته المتعددة والتباهي بما يملك من رصيد
ثقافي وعلمي كبير وقل أن يشعر جليسه بما بينهما من فوراق.
الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود حديثه مصقول، تجري فيه الأفكار العريضة في
سهولة ويُسر بحيث تدخل النفوس شائقة وطيبة دون عنت ولا استكراه.
يقول الطلاب الذين قام الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود بتدريسهم في ارتريا
والسودان أنه غني عن التعريف استاذ بدرجة عالم، بارع ومتميز اسلوبه مفيد
للطلاب حيث يحرص في حصصه على النقاشات المتبادلة مع الطلاب طول الحصة مما
يزيد من انتباه الطالب وتحصليه.
ولد هذا الاستاذ الجليل الصامت المهيب بمدينة كرن عام 1934م نشأ وترعرع في
كريم من بيوت الأسر الارترية وسليل أسرة حكروب التي عرفت بالصلاح والتقوى
والعلم والوطنية والشهامة، تلقى تعليمه الأولي بمدينة كرن ثم التحق بمعهد
المعلمين في أسمرا وكان أول دفعته عند تخرجه، حصل على دبلوم في اللغة
الانجليزية بالمراسلة من المعهد البريطاني بدرجة امتياز، وأكمل دراسته
الجامعية وحصل على البكالوريوس في ادارة التعليم والمناهج التعليمية بدرجة
الشرف من جامعة أديس أبابا.
قام بتصحيح بعض الأخطاء في قاموس أكسفورد الانجليزي (Oxford
Dictionary
) الذي نشرته مطبعة جامعة أكسفورد ولمجهوده وجهة له جامعة أكسفورد رسالة
شكر وتقدير، ومنحته منحة لدراسة اللغة الانجليزية وآدابها على نفقتها في
لندن ، إلا أنه اعتذر مؤثراً خدمة التعليم في وطنه.
ومن القصص المشهورة عن الاستاذ صالح محمد محمود والتي يتداولها الناس الى
يومنا هذا هي كان النظام المتبع في جامعة اديس أبابا أن يقوم الإمبراطور في
حفل كبير بتسليم الشهادات للطلاب الخريجين الأوائل. وحسب التقاليد المتبعة
ينحني الطلاب أمام الإمبراطور حتى تكاد رؤوسهم تلامس الأرض، يقال خالف
الاستاذ صالح محمد محمود هذا التقليد فوقف أمام الامبراطور شامخاً مرفوع
الهامة، يموت ولا ينحني رأسه إلا لله سبحانه وتعالى لأن الله أكرمه بنعمة
الإسلام.
يقال بعد أن عرف الامبراطور هيلي سلاسي بأن الاستاذ صالح محمد محمود من
ارتريا أعجب بشجاعته وتمسكه بتعاليم دينه.
الرجل مربي أجيال رحيم خلوق وحساس نموذجاً حياً ورائعاً للمعلم داخل
المدرسة وخارجها. هو مدرسة كاملة متسامح غاية التسامح مع طلابه وزملائه، هو
أحدى المنارات التي ساهمت في نشر الوعي وازالة الجهل في العديد من قرى ومدن
ارتريا له بصمات واضحة ومعروفة في كل المدارس والمناطق التي عمل بها، تخرج
مع على يديه اعلام يفاخر بها وطنه.
من انجازاته المشهودة أنه عمل عند تعيينه مديراً بمدرسة أغردات الثانوية
على تطوير المدرسة حتى أصبحت مدرسة أغردات آنذاك مدرسة نموذجية في مناهجها
التعليمية وانضباطها وقدرات طلابها على التحصيل العلمي.
كان الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود كما يحكي أحد طلابه وزملائه في مدرسة
أغردات الثانوية : ( يكتشف طرقاً حديثة وسهلة لإفهامنا مادة الرياضيات وهذا
ساعدنا على الحصول على درجات عالية في امتحان الشهادة الثانوية).
كان عمل الرجل على تطوير ذاته وبناء قدراته من خلال القراءة والبحث ثم يقدم
حصيلة ما توصل اليه لتلاميذه وكان الاستاذ صالح محمد محمود أكاديمياً
متخصصاً ومتفوق في جيله ومن جهة أخرى كان يتميز بالمتابعة لأحدث التطورات
للقضية الارترية، كان من أنصار الحركة الوطنية الارترية – الكتلة
الاستقلالية – ومنذ قيام حركة تحرير ارتريا عام 1958م انضم الى صفوفها وكان
له دور كبير في تكوين الخلايا السرية ، وعندما أعلن القائد الشهيد حامد
ادريس عواتي بن فايدوم الثورة المسلحة في عام 1961م أصبح عضواً فاعلاً
ونشطاً في الخلايا السرية لجبهة التحرير الارترية في بعض المدن.
يحكي أحد تلاميذه: (حينما كنا نقوم بالإضرابات في عهد الاستعمار الاثيوبي
كان المعلمون يتحاشون الاتصال بنا ولكن الاستاذ صالح محمد محمود كان يشجعنا
ويشد من أزرنا). ويضيف طالب آخر : (عندما فرضت سلطات الاحتلال الاثيوبي
الخدمة الوطنية وتقرر أن نذهب الى مناطق أثيوبية بعيدة عن ديارنا كان
الاستاذ صالح يقول لنا من حقكم الاعتراض والمطالبة بالخدمة في مناطقكم وبين
أهلكم لأن أهلكم في أمس الحاجة لخدماتكم).
وفي عام 1976م قام الاستاذ صالح محمد محمود بجهود متواصلة مع زملائه
المعلمين والمسئولين في الثورة الارترية والأجهزة المختصة في الامم المتحدة
حتى كللت تلك الجهود بإفتتاح مدرسة (اليونيسكو) 1977م في مدينة كسلا
بالسودان وأصحبت هذه المدرسة منارة تعليمية وملاذ لكل أبناء اللاجئين
الارتريين في السودان وأصبح الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود أول مدير لها.
وبعد أن اطمئن على سير المدرسة ونجاحها انتقل الى ساحة أخرى من ساحات
النضال في عمق الأراضي الارترية المحررة وقام بوضع المناهج التعليمية
لمدارس الثورة بمختلف مراحلها التعليمية.
كان الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود طوال مرحلة الكفاح المسلح في ارتريا
مناضلاً صلباً يعطي العلم بيد ويساهم في الثورة باليد الأخرى، تقلد عدة
مناصب ادارية وتشريعية وتنفيذية في جبهة التحرير الارترية.
كان الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود حريصاً دائماً على حضور اجتماعات
ومؤتمرات اتحاد المعلمين العرب، وقدم عدة أوراق وبحوث علمية لتطوير المناهج
التعليمية وتأهيل وتدريب المعلمين في الوطن العربية.
وأذكر هنا على المثال عنوان أحدى أبحاثه العلمية المقدمة في ورش عمل اتحاد
المعلمين العرب (التحضيرات المدرسية وصناعة المناهج وتنمية جودة التعليم
المبكر واعادة تأهيل المعلمين والمعلمات).
وترجل الشيهد الاستاذ صالح محمد محمود واقفاً فارعاً مهيباً في زمن قل فيه
الرجال الأوفياء وفي زمن فيه حال ارتريا لا يسر، رحل واقفاً دون أن يكون
ثقيلاً على أحد، رحل بصمته وعنفوانه وكبرياءه، رحل المناضل الكبير، رحل
استاذ الأجيال بصمت، ولكنه لم يأخذ خيمته، ومازال حصانه يصهل في براري
الروح، ومازالت جياده التي ركضت به وركض بها طوال سنين عمره حاضرة في نفس
كل وطني ارتري شريف، رحل ولم ترحل مبادئه التي قاتل من أجلها في كل اتجاه،
وستبقى تستنفر فينا العمل لها، لكي يكون الوطن كما حلم به تسوده المعرفة
والعلم والعدالة وحقوق الانسان والديمقراطية الحقة.
وهنا ونحن نودع الفارس الشهيد الاستاذ صالح محمد محمود الذي ترجل عن صهوة
الدنيا الفانية لا نقول لا ما يرضي الله (إنا لله وإنا اليه راجعون) رحم
الله الراحل بن الوطن البار رحمة واسعة ، والعزاء لكل محبيه وأصدقائه
وأسرته الكريمة.