ارتريا .. والدائرة المغلقة بين ديكتاتورية مفلسة ومعارضة متواضعة ! / إدريس عبد الله قرجاج
نشر من قبل omaal في 13-01-2011

ارتريا .. والدائرة المغلقة بين ديكتاتورية مفلسة ومعارضة متواضعة !

إدريس عبد الله قرجاج

المدقق في طبيعة الأوضاع التي تعيشها ارتريا الدولة مجتمعاً ، وحكماً ديكتاتورياً ظالماً، ومعارضة متواضعة بكل المقاييس يكتشف بدون بذل جهداً مضنياً يستدعى منه الحفر والتنقيب والنبش في العقل لغايات البحث والاستدلال لمعرفة ما يدور في المشهد السياسي الارتري الذي بات من الوضوح ما لا يستدعي للكشف عن المعلومة بصورها المتعددة خاصة بما يختص بالسلطة الديكتاتورية المستبدة التي يمثلها أفورقي وحزبه "الجبهة الشعبية" الذي انضم كعضو أصيل لجوقة الأنظمة التي تحكم معظم بلدان العالم الثالث ومنها بلدان العالم العربي والإسلامي التي اتخذت من الاستبداد والتسلط عنواناً بارزاً ومميزاً لها، وهي بذلك تعلن موقفها الصريح ضد الديمقراطية وبالتالي هي ترفض مبدأ انخراط جميع المواطنين البالغين في العمل السياسي وهي بهذا التصرف تنكر على المواطنين حقوقهم في المشاركة وتعطي الأولوية لنفسها كنظام حكم، وتأتي مصالح المواطنين في مواقع أخرى من سلم الأولويات ولهذا فإن أهم ميزات هذه الأنظمة هو الميل الكامل إلى قمع كل أشكال المعارضات سواءً  كانت شعبية أو منظمة أو حتى استئصالها نهائياً في الغالب الأعم.

وبالتالي فإن سلطة أفورقي تعد نتاجاً طبيعياً لتلك الدائرة المغلقة التي تعيش في محيطها كل النظم الديكتاتورية وبما أنه كذلك فنجده دائماً بعيداً عن وضع المخططات وصياغة المشاريع التنموية الهادفة بل يظل مشغولاً بهموم الحفاظ على سلطته أطول مدة ممكنة مكتفياً بجهاز أمنه وعسكره للقمع والقتل والتعذيب والردع لكل من يخالفه الرأي ويصرف جل وقته في تشييد السجون بدلاً من بناء المستشفيات، ونشر معسكرات التجنيد الإجباري بدلاً من المدارس والجامعات، وتعميم ثقافة التجهيل والفقر والتخلف بدلاً من ثقافة العلم والمعرفة والكسب الشريف عبر انتشار المشاريع الزراعية والصناعية والتجارية، ولا تقف الأمور عند ذلك لتضرب في الصميم ركناً أساسياً لحياة الإنسان الارتري عبر الاستهداف المباشر لحريته وكرامته وحقوقه الإنسانية التي طالما ناضل من أجلها مقدماً عظيم التضحيات في سبيلها، مما يعزز لدينا الشعور بأنه هكذا ممارسات إما تعبر عن نظام لا يملك الثقة في نفسه ويشعر دوماً بالخوف من كل شيء وبالتالي نجده يؤسس لقبول الشعب الارتري بثقافة الخنوع للدكتاتورية فالخنوع ينشر قيم تقبل الظلم، وتقبل المس بكرامة الإنسان والقضاء على الحقوق المشروعة من حرية وعدل ومساواة، كما ينشر دائماً عقدة النقص أمام الديكتاتورية المهيمنة وجميعها قيم تعيق تطور الإنسان ونهضته وقد يكون هذا صحيحاً.

ولكن بالمقابل يتغافل الديكتاتور أفورقي وحزبه المفلس لقد أثبتت التجربة في أكثر من بلد في العالم الثالث بأن نظام الحزب الواحد المحاط والمسنود بالعسكر والأجهزة الأمنية المنتشرة في جسده لم يحقق سلطة أبدية ولا وحدة وطنية بل شوه بنية الدولة القطرية فكيف بسلطة الفاشلة التي تسير على قدم واحدة مكسورة ومعاقة، ويعتمد في توجهه وبلورت خياراته على فكر عقيم واحد لحزب جفت الدماء في عروقه وصوته بات رخواً، وغرق في الفساد حتى الثمالة، أو لرجل واحد دفعت به السلطة المطلقة إلى حافة العظمة المجنونة والمدمرة والمنتجة لكل الحماقات الممكنة والمتخيلة التي صورة له بأنه بطلاً قومياً في ارتريا وأنه أسد القرن الأفريقي الأوحد فكان الفشل الذي لا تخطئه عين كل متابع فنصيبه في كلا الجانبين يدلل على حاله حيث أصبح قزماً ارترياً بالرغم من طوله الفارع، ونعامة القرن الأفريقي التي خسرت كل نزاعاتها مع دول الجوار فأصبح معزولاً يلعب الأتاري في قصره الخاوي من الزوار خاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1907م، المنتظر تطبيقه ليزيده عزلة فوق عزلته وليكون محصوراً في قصره الخاوي والفارغ من كل مظاهر الحياة، بينما هو أفرغ ارتريا من شبابها ورجالها ونسائها الذين دفعت بهم آلة القمع والقهر والتسلط إلى النزوح واللجؤ لدول الجوار أو حتى ركوب الصعاب التي تبدأ من شق عباب البحر المتوسط أو الأحمر ينجو من ينجو ويغرق من يغرق لتلتهم أسماك القرش من تلتهمهم دون أن يصلوا إلى مقصدهم في دول المهجر، وآخرون يموتون رمياً بالرصاص على حدود سيناء هروباً من جحيم أفورقي حتى لو كان المقصد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة بينما "سفيره في القاهرة" يعلن موافقته على قتلهم وسجنهم والكيان الصهيوني يوفر لهم الملاذ الآمن والنظر في أمرهم كم هي المفارقة مؤلمة بفعل تلك المقادير التي تفعل فعلها بالإنسان الارتري.

وبالرغم من كل هذه الشواهد الحية التي تصرخ وتعبر عن نفسها باعتبارها قضايا حقيقية ما يزال الديكتاتور وحزبه يكابرون بكل وقاحة سياسية فظة بقولهم ليست هناك أية مشاكل فالشعب الارتري راضي كل الرضا عنهم وهم لا يعيرون أي انتباه لتلك الظواهر الصوتية التي تعيش في الخارج، وكأن العالم لا يرى ولا يسمع ما تقوم به الديكتاتورية المنفلتة تجاه الشعب الارتري من ممارسات تعسفية، وتطهير عرقي، واقتلاع المواطنين من أرضهم ومساكنهم، ومصادرة لحقوقهم الخاصة والعامة، بينما العالم اليوم أصبح قرية مفتوحة قصرت فيه المسافات وتحطمت فيه حواجز الحرية عبر فضاءات إعلامية حرة توشك أن تقضي على عصر الانغلاق بصورة نهائية.

وما نشاهده الآن من حراك شعبوي ضد القهر والتسلط والفقر وعدم التشغيل والحرمان من حرية التعبير في كل من تونس والجزائر بكل ما يميزهما من بنيات تنموية في كل المجالات عن ارتريا، فها هو الحراك الشعبي يهز كراسي حكامه ليقدم درساً لنا وللطاغية في وقت واحد، بل أرسلوا لكل شعوب المنطقة إشارات واضحة بأن إمكانية التغير ممكنة ولو بحدود معقولة إذا ما رادت الشعوب التحرك تجاه كل المظالم الواقعة عليها من سلطة ديكتاتورية هنا أو هناك، والعبرة لمن يلتقط الإشارات ويحولها إلى أفعال.

وفي الجهة المقابلة فهل المعارضة بأفضل حال من ديكتاتورية أفورقي ومن وجهة نظر المتابعين من بعض أفراد المجتمع الارتري فواقع الحال يقول: أن الأمور متشابهة ولا تحمل ما هو جديد يبشر بعملية التغير الذي ينتظره الشعب الارتري في الداخل والخارج بالرغم من كل الأماني والآمال التي تحدو الجميع حيث أن المعارضة هي الأخرى تعيش في نفس الدائرة المغلقة بكل تلاوينها السياسية المتعددة لم تستدل حتى هذه اللحظة بأن تقرأ المشهد السياسي في بلادها على نحو يمكنها من فهم قضاياه المختلفة ومن تبصر الخفايا والمكنونات عبر رؤية تدرك الاتجاهات وطبائع المواقف، ومعانيها، وغاياتها، وأهدافها، وخاصة أن مصدرها واحد متمثل في واقع الحال الارتري الذي تنتجه سلطة أفورقي فهل المعارضة لها من القدرة على توظيف كل الإخفاقات والفشل الذي يلف النظام من أخمص قدميه حتى رأسه؟ وهل المعارضة نجحت في أدائها بالتعاطي مع كل الأوضاع والجرائم والأزمات التي افتلعتها وتفتلعها على نحو مستمر سلطة أفورقي طوال عشرين عاماً بحق الشعب الارتري ودول الجوار وبالاستفادة منها والقدرة على توظيفها؟ وهل كانت ردة فعل المعارضة تنطبق عليها تلك القاعدة القائلة بأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومضادة له في الاتجاه بمعنى أن فعل المعارضة يجب أن يتناسب وتلك المظالم الفظيعة التي ارتكبتها سلطة أفورقي؟ وهل المعارضة من أجل التصدي لكل تلك المظالم قامت بتصويب مسارها السياسي المتأرجح بين ما هو مبدئي وعام وما هو مصلحي وخاص؟ وهل المعارضة استطاعت أن تتمكن من الولوج إلى باب التحول الديمقراطي والعدل والمساواة والذي يبدأ بمسألة تعزيز قيم المواطنة وهو المفهوم الذي تركته السلطة التسلطية القائمة على شخص الديكتاتور ليبقى دون حل؟

وبالرغم من هذه التساؤلات التي تفتح الباب واسعاً حول وجهة المعارضة ورؤيتها في قراءة المشهد الارتري في كافة مجالاته بصورة تمكنها من التعاطي معها على نحو ينسجم مع تطلعاتها وأهدافها ومقاصدها فأنني أرى أن المعارضة قد تكون حققت بعض النجاحات عندما بدأت تتحاور وتجتمع فيما بينها وتوصلت إلى تكوين تحالفات كالتحالف الديمقراطي الارتري كإطار أو مظلة تضم معظم قوى المعارضة.

وقد برزت مكانة ودور التحالف عندما أسهم بصورة فاعلة في عقد ملتقى الحوار الوطني في أغسطس 2010م كخطوة جبارة نحو التلاقي الوطني التي تمهد بدورها لعقد المؤتمر الوطني الجامع الذي يعقد عليه كل الارتريين الآمال العراض.

ولكن هل تكفى هذه الخطوة على أهميتها في أن تنتشل الشعب الارتري من ظلم الديكتاتورية أو تكون محط الاهتمام الوطني والإقليمي والدولي بغية التفاعل معها بما تحمله من أجندة تغيرية طموحة.

في تقديري بأن المعارضة بالرغم من أهمية هذه الخطوة إلا أنها سنحت لها العديد من الفرص المهمة التي صنعتها لها سلطة أفورقي ولو تم استغلالها واستثمارها بشكل صحيح لشكلت لها اليوم دفعة قوية ومرتكزاً أساسياً يمكنها من تحديد اتجاهاتها وضبط مساراتها السياسية والوعي بأهدافها وغاياتها المستقبلية، وكان حري بالمعارضة أن تشكل وفداً مشتركاً يتكون من قيادة "التحالف" مهمته أن يجوب عواصم المحيط الإقليمي وينفذ منها إلى عواصم دولية طارقاً لأبوابها المرة تلو المرة إلى أن تفتح أمامه الأبواب ليقدم نفسه وفق رؤية استراتيجية وخطاب سياسي حضاري يتناغم ومقتضيات المصالح والمنافع المتبادلة مع تلك العواصم لأن القسطنطينية لم تفتح من أول مرة، مما يعني بأن المعارضة لو استثمرت جزءاً من كل هذه الفرص التي أتيحت لها وقامت بتوظيفها توظيفاً سليماً لكان وضعها اليوم أفضل في مواجهة التحديات التي تنتظرها.

ويعود السبب في ذلك لأن كل الزيارات التي كانت تقوم بها قيادات التحالف لبعض العواصم كانت فردية ولا تحمل طابع الوفد المشترك الذي يمثل جسم سياسي كبير كالتحالف وبالتالي كانت نتائجها محدودة وغير مؤثرة لا من جهة الدعم السياسي ولا من جهة الدعم المادي ولذلك ترسخ الفهم لدى تنظيمات التحالف بأن يعمل كل واحد منها بمفرده وبالنتيجة برزت تحالفات فرعية من داخل مظلة التحالف كتلك التي تضم فصائل أربعة  في إطار جبهة التضامن الارتري وهو تحالف أعلن عن نفسه وهناك تحالفات قد تكون أعلنت عن نفسها ولكنها لم تبرز على الواجهة.

ولهذا فالخشية كل الخشية أن ينزلق الجميع من حيث يدري ولا يدري إلى حالة الانقسام السياسي داخل كيان التحالف وتتحول مع مرور الوقت من ظاهرة الخلاف في الرأي إلى الانحياز بالكامل إلى الطائفية  أو القبلية التي قد تمثل مصالح بعينها إذا ما صغيت بعناية ويتم تسيسها، ووقتها لا يمكن العيش في إطار سياسي واحد لأن الأمر سوف يتحول إلى صراع هويات فرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة ولذلك يجب على قوى المعارضة على اختلاف توجهاتها التنظيمية أن تراجع سياساتها وتعيد حساباتها وأن لا تكتفي بالبرامج التنظيمية والسياسية كنصوص جامدة بل عليها أن تتقدم بخطاب سياسي يقرأ الأحداث المتواترة داخلياً وخارجياً حتى يتثنى لها المقدرة في طرح معالجات صحيحة تستشرف من خلالها آفاق المستقبل وتنتقل من الدائرة المغلقة إلى فضاء أكبر لأن السياسة كالطبيعة لا تعترف بالفراغ فإذا لم يتمكن التحالف من ملئه سوف يأتي من يملأه لأن احتمالات ملئه ستكون متاحة أمام الجميع سواء قدموا من الداخل أو من الخارج وهذا ما ستكشفه لنا الأيام والله المستعان.